فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وما هو الضلال؟ يقولون: ضل فلان الطريق أي مشى في مكأن لا يوصله للغاية، أو يوصل إلى ضد الغاية؛ لأن الضلال في الدنيا والأمور المادية قد لا يوصلني لغايتي المرجوة، وقد لا يوصلني لشر منها أو لمقابلها، لكن في الأمر القيمى ماذا يفعل؟ أنه لا يوصلك إلى الغاية المرجوة وهي الجنة فحسب ولكنه يوصل للمقابل وهو النار، هذا هو الضلال المبين، أنه ضلال واضح؛ بدليل أن النقائص التي جاء الإسلام ليطهر الإنسان منها، يحبّ مرتكبها ألا تُعلم عنه وسط الناس، فالسارق يسرق لكن لا يحب أن يعرف الناس أنه لص، والكاذب يكذب لكن لا يحب أن يعرف الناس أنه كذاب، بدليل أنك عندما تقول له: يا كذاب تكون له صاعقة. إذن فالنقيصة تُفعل وصاحبها لا يريد أن يراها أحد أو يُعرف بها.
{وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} أي ضلال ظاهر وهو ضلال يعرفه صاحبه بدليل أننا قلنا في قصة سيدنا يوسف؛ حيث نجد في القصة اثنين من الفتيان قد دخلا السجن، وماذا حدث لهما: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36].
لقد رأوا في يوسف عليه السلام كأن عنده ميزان الإحسان فهو يعرف الحسن والقبيح، ولأنهما يعرفان ميزان الإحسان فلابد أن تكون المسائل بالنسبة لهما واضحة. ولماذا لم يقلها واحد منهما من قبل؟
لقد شهدا هذه الشهادة لسيدنا يوسف لأنهما يطلبان الآن مشورته في تأويل الرؤى. كان يوسف عليه السلام مسجونا، ولم ينظر إليه أحد إلا كمسجون. ومن سلوكه معهما في السجن عرفا أنه طيب ومحسن. ولذلك التفتا إليه ورأيا فيه أنه قادر على تأويل رؤيا كل منهما. مثلما قلنا: إن المنحرف نفسه يعرف قيمة الفضيلة، وهكذا نجد أن الفضيلة مسألة ذاتية وليست نسبية، أي أنه حتى المنحرف عن الفضيلة يرى الفضيلة فضيلة.
وبعد ذلك يعود الحق إلى قضية عجيبة، فإذا كان الله سبحانه قد من على المؤمنين بالرسول، ومن أنفسهم، وجاء يتلو عليهم آيات الله، وجاء يزكيهم طهارة ونقاء ونماء، وجاء ليعلمهم الكتاب والحكمة وهي وضع الشيء في موضعه، أو البحث عن أسرار الأشياء كان يجب عليكم- إذن- أنه إذا قال قولة لا تخالفوا عنها أبدا، وعندما يجري على يديه أمر فهو لا يحتاج إلى مناقشة، إذن فما حكايتكم؟. اهـ.

.تفسير الآية رقم (165):

قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما أزال شبهة النسبة إلى الغلول بحذافيرها.
وأثبت ما له من أضدادها من معالي الشيم وشمائل الكرم صوب إلى شبهة قولهم: لو كان رسولًا ما انهزم أصحابه عنه، فقال تعالى: {أولما} أي أتركتم ما أرشدكم إليه الرسول الكريم الحليم العليم الحكيم ولما {أصابتكم} أي في هذا اليوم {مصيبة} لمخالفتكم لأمره وإعراضكم عن إرشاده {قد أصبتم مثليها} أي في بدر وأنتم في لقاء العدو وكأنما تساقون إلى الموت على الضد مما كنتم فيه في هذه الغزوة، وما كان ذلك إلا بامتثالكم لأمره وقبولكم لنصحه {قلتم أنّى} من أين وكيف أصابنا {هذا} أي بعد وعدنا النصر {قل هو من عند أنفسكم} أي لأن الوعد كان مقيدًا بالصبر والتقوى، وقد تركتم المركز وأقبلتم على الغنائم قبل الأمر به، وعن علي رضي الله تعالى عنه أن ذلك باختيارهم الفداء يوم بدر الذي نزل فيه {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} [الأنفال: 68] وأباح لهم سبحانه وتعالى الفداء بعد أن عاتبهم وشرط عليهم إن اختاروه أن يقتل منهم في العام المقبل بعدّ الأسرى، فرضوا وقالوا: نستعين بما نأخذه منهم عليهم ثم نرزق الشهادة.
ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الذي لا كفوء له {على كل شيء} أي من النصر والخذلان ونصب أسباب كل منهما {قدير} وقد وعدكم بذلك سبحانه وتعالى في العام الماضي حين خيركم فاخترتم الفداء، وخالف من خالف منكم الآن، فكان ذكر المصيبة التي كان سببها مخالفة ما رتبه صلى الله عليه وسلم بعد ختم الآية التي قبلها بالتذكير بما كانوا عليه من الضلال على ما ترى من البلاغة. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم طعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة، حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم: لو كان رسولا من عند الله لما انهزم عسكره من الكفار في يوم أحد: وهو المراد من قولهم: {أنى هذا}، وأجاب الله عنه بقوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم فهذا بيان وجه النظم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

تقرير الآية: {أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ} المراد منها واقعة أحد، وفي قوله: {قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا} قولان:
الأول: وهو قول الأكثرين أن معناه قد أصبتم يوم بدر، وذلك لأن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين، وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين.
والثاني: أن المسلمين هزموا الكفار يوم بدر، وهزموهم أيضا في الأول يوم أحد، ثم لما عصوا هزمهم المشركون، فانهزام المشركين حصل مرتين، وانهزام المسلمين حصل مرة واحدة، وهذا اختيار الزجاج: وطعن الواحدي في هذا الوجه فقال: كما أن المسلمين نالوا من المشركين يوم بدر، فكذلك المشركون نالوا من المسلمين يوم أحد، ولكنهم ما هزموا المسلمين ألبتة، أما يوم أحد فالمسلمون هزموا المشركين أولا ثم انقلب الأمر. اهـ.
وقال الفخر:
الفائدة في قوله: {قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا} هو التنبيه على أن أمور الدنيا لا تبقى على نهج واحد، فلما هزمتموهم مرتين فأي استبعاد في أن يهزموكم مرة واحدة. اهـ.
وقال الفخر:
سبب تعجبهم أنهم قالوا نحن ننصر الإسلام الذي هو دين الحق، ومعنا الرسول، وهم ينصرون دين الشرك بالله والكفر، فكيف صاروا منصورين علينا!
واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين: الأول: ما أدرجه عند حكاية السؤال وهو قوله: {قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا} يعني أن أحوال الدنيا لا تبقى على نهج واحد، فإذا أصبتم منهم مثل هذه الواقعة.
فكيف تستبعدون هذه الواقعة؟
والثاني: قوله قل: {هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}. اهـ.
وقال الفخر:
تقرير هذا الجواب من وجهين:
الأول: أنكم إنما وقعتم في هذه المصيبة بشؤم معصيتكم وذلك لأنهم عصوا الرسول في أمور:
أولها: أن الرسول عليه السلام قال: المصلحة في أن لا نخرج من المدينة بل نبقى هاهنا، وهم أبوا إلا الخروج، فلما خالفوه توجه إلى أحد.
وثانيها: ما حكى الله عنهم من فشلهم.
وثالثها: ما وقع بينهم من المنازعة.
ورابعها: أنهم فارقوا المكان وفرقوا الجمع.
وخامسها: اشتغالهم بطلب الغنيمة وإعراضهم عن طاعة الرسول عليه السلام في محاربة العدو، فهذه الوجوه كلها ذنوب ومعاصي، والله تعالى إنما وعدهم النصر بشرط ترك المعصية، كما قال: {إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ} [آل عمران: 125] فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط.
الوجه الثاني: في التأويل: ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فقال: يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى فيضربوا أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء على أن تقتل منهم عدتهم، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لقومه، فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ الفداء منهم، فنتقوى به على قتال العدو، ونرضى أن يستشهد منا بعددهم، فقتل يوم أحد سبعون رجلا عدد أسارى أهل بدر، فهو معنى قوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} أي بأخذ الفداء واختياركم القتل. اهـ.
وقال الفخر:
استدلت المعتزلة على أن أفعال العبد غير مخلوقة لله تعالى بقوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} من وجوه:
أحدها: أن بتقدير أن يكون ذلك حاصلا بخلق الله ولا تأثير لقدرة العبد فيه، كان قوله: {مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} كذبًا، وثانيها: أن القوم تعجبوا أن الله كيف يسلط الكافر على المؤمن، فالله تعالى أزال التعجب بأن ذكر أنكم إنما وقعتم في هذا المكروه بسبب شؤم فعلكم، فلو كان فعلهم خلقًا لله لم يصح هذا الجواب.
وثالثها: أن القوم قالوا: {أنى هذا}، أي من أين هذا فهذا طلب لسبب الحدوث، فلو لم يكن المحدث لها هو العبد لم يكن الجواب مطابقا للسؤال.
والجواب: أنه معارض بالآيات الدالة على كون أفعال العبد بإيجاد الله تعالى. اهـ.
وقال الفخر:
{إِنَّ الله على كُلِّ شَئ} أي أنه قادر على نصركم لو ثبتم وصبرتم، كما أنه قادر على التخلية إذا خالفتم وعصيتم، واحتج أصحابنا بهذا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى قالوا: إن فعل العبد شيء فيكون مخلوقا لله تعالى قادرا عليه، وإذا كان الله قادرا على إيجاده، فلو أوجده العبد امتنع كونه تعالى قادرا على إيجاده لأنه لما أوجده العبد امتنع من الله إيجاده، لأن إيجاد الموجود محال فلما كان كون العبد موجودًا له يفضي إلى هذا المحال، وجب أن لا يكون العبد موجدا له، والله أعلم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{إن الله على كل شيء قدير} أي قادر على النصر، وعلى منعه، وعلى أن يصيب بكم تارة، ويصيب منكم أخرى.
ونبه بذلك على أن ما أصابهم كان لوهن في دينهم، لا لضعف في قدرة الله، لأن من هو قادر على كل شيء هو قادر على دفاعهم على كل حال. اهـ.

.قال ابن عجيبة:

إذا أصاب المريد شيء من المصائب والبلايا، فلا يستغرب وقوع ذلك به، ولا يتبرم منه، فإنه في دار المصائب والفجائع، لا تستغرب وقوع الأكدار ما دُمتَ في هذه الدار، فإنما أبرزت ما هو مستحق وصفها وواجب نعتها.
وإذا كان أصابته مصيبة في وقت، فقد أصابته نعمٌ جمة في أوقات عديدة، فليشكر الله على ما أولاه، وليصبر على ما ابتلاه، ليكون صبارًا شكورًا.
قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: (العارف هو الذي عرف إساءاته في إحسان الله إليه، وعرف شدائد الزمان في الألطاف الجارية من الله عليه، فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون). وأيضا: كل ما يصيب المؤمن فمن كسب يده، ويعفو عن كثير.
وإن كان المريد وعد بالحفظ والنصر، فقد يكون ذلك بشروط خفيت عليه، فلم تحقق فيه، فيخلف حفظه لينفذ قدر الله فيه، {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَرًا مَّقْدُورًا} [الأحزاب: 38].
وليتميز الصادق من الكاذب والمخلص من المنافق. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال في صفوة التفاسير:
البلاغة:
1- {إن ينصركم...} {وإن يخذلكم} بينهما مقابلة وهي من المحسنات البديعية.
2- {وعلى الله فليتوكل} تقديم الجار والمجرور لإفادة الحصر.
3- {وما كان لنبى أن يغل} أي ما صح ولا استقام، والنفى هنا للشأن وهو أبلغ من نفي الفعل.
4- {أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله} قال أبو حيان: هذا من الإستعارة البديعية، جعل ما شرعه الله كالدليل الذي يتبعه من يهتدي به، وجعل العاصى كالشخص الذي أمر بأن يتبع شيئا، فنكص عن اتباعه ورجع بدونه.
5- {بسخط من الله} التنكير للتهويل أي بسخط عظيم لا يكاد يوصف.
6- {هم درجات} على حذف مضاف أي ذو درجات متفاوتة، فالمؤمن درجته مرتفعة والكافر درجته متضعة.
7- {للكفر...} و{للإيمان} بينهما طباق وكذلك بين {يبدون...} و{يخفون}.
8- {أصابتكم مصيبة} بينهما جناس الإشتقاق، وهو من المحسنات البديعية. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ}.
الهمزة للإنكار، وجعلها ابنُ عطية للتقرير، والواو عاطفة، والنية بها التقديم على الهمزة.
وقال الزمخشري: ولما نصب بـ {قلتم} و{أصابتكم} في محل الجر، بإضافة لما إليه، وتقديره: أقلتم حين أصابتكم. و{أنى هذا} نصب؛ لأنه مقول، والهمزة للتقرير والتقريع.
فإن قلتَ: علامَ عطفت الواو هذه الجملة؟ قلتُ: على ما مضى من قصة أحُد- من قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} [آل عمران: 152] ويجوز أن تكونَ معطوفة على محذوف، كأنه قيل: أفعلتم كذا، وقلتم حينئذ كذا؟ انتهى.
أمّا جعله لما بمعنى حين- أي ظرفًا- فهو مذهب الفارسيِّ وقد تقدم تقرير المذهبين وأما قوله: عطف على قصة أحد فهذا غير مذهبه، لأن الجاري من مذهبه إنما هو تقديرُ جملة، يعطف ما بعد الواو عليها- أو الفاء، أو ثم كما قرره هو في الوجه الثاني.
و{أنى هذا} {أنى} بمعنى من أين- كما تقدم في قوله: {أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 37] ويدل عليه قوله: {مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} وقوله: {مِنْ عِنْدِ الله} قاله الزمخشري.
ورد عليه أبو حيّان بأن الظرف إذا وقع خبرًا للمبتدأ لا يقدَّر داخلًا عليه حرف جر، غير في.
أما أن يقدر داخلًا عليه من فلا؛ لأنه إنما انتصب على إسقاط في ولذلك إذا أضمِر الظرف تعدى إليه الفعل بواسطة في إلا أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيه بالمفعول به، فتقدير الزمخشريُّ غيرُ سائغٍ، واستدلاله بقوله تعالى: {مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} وقوله: {مِنْ عِنْدِ الله} وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها.